* * *
أشرق صباح يوم جديد والقلوب تختلج في أقفاصها فرحة بموعد ألهنا الذي اقترب ، والكل يسهب الفكر في تلك الحفلة المرتقبة ، وأشدهم ترقب ولهفة صاحبة الحفل وهي كعصفورة ترفرف من مكان إلى مكان تتأهب للقاء الذي طالما حلمت به ، وهي تتصل برفيقاتها وتؤكد عليهن الحضور وتطلب منهن التهيؤ التام لحفلها ، وطلبت من إحداهن أن تحظر معها آخر مجموعة غنائية جديدة خاصة بالأفراح ، كما طلبت من أخرى إحضار جهاز التشغيل ، وأوصتهن بالرقص ، وإظهار الحفلة في أروع ما تكون ، لأنها لا تعتمد على شقيقتها أو ابنة عمها ، كما أنها تود أن تفاجأ كوثر وشقيقها بهذا التجهيز الرائع على حد قولها ، وأثناء ما كانت مشغولة بكل أمورها جاءت إليها وجدان مبتهجة وهي تقول : ــ
ـــ لقد أحضرت لك مجموعة من الأشرطة الخاصة بأناشيد الأفراح الإسلامية الرائعة ستضيف على الحفل البهجة والمرح .. كما أن والدتي وجهت الدعوة لبعض من يعز عليها من النسوة البارعات في إلقاء الأناشيد الجميلة بهذا الخصوص وأوصتهن بالأداء الجيد والاهتمام .
قالت لها بضجر : ــ
ـــ افعلي ما بدا لك .. فأنت تعلمين أن هذه الأشياء لا تهمني .
ابتسمت وجدان ببراءة وقالت : ــ
ـــ نعم .. أنت الآن اهتمي بما هو أهم .. واتركي لنا إحياء الحفل .
ابتسمت كلثم بسخرية وغموض ، وهي لا تريد أن تخبرها بما خططت له هي ؛لأنها تعلم جيداً بأن شيئاً لن يعجبها لمعرفتها السابقة بطريقة تفكيرها .. وبعد صلاة المغرب اجتمعن النسوة من الأقارب والأحبة والأصحاب لتزيين العروس ، ولكن كلثم رفضت وفضلت المضي إلى المشغل النسائي الفخم لتزيين العرائس .. ونصحنها بعض الفتيات اختصاراً للوقت أن تمضي إلى مشغل قريب في القرية حتى لا تبتعد كثيراً ، وأصغت إلى ذلك على مضض ، بأمل أنها سترحل عن هذه القرية ومن بؤسها إلى الأفضل .
وحوالي الساعة الثانية عشر ولجت كلثم إلى صالة الأفراح بعداد وكأنها أميرة ، ترفل في ثوب الزفاف الرائع الذي اختارته بعناية بحيث يعجبن به جميع الفتيات من صويحباتها والمقربات منها ، فاشرأبت إليها الأعناق في انبهار والكل يهتف : ــ
ـــ يا لجمالها .. كم هي رائعة ...!
وتقدمت بخطوات تؤدة وقد اصطحبنها صديقاتها يهللن مع كل خطوة تخطيها ، واستقلت مكانها على المسرح ، واجتمعن حولها الفتيات معجبات بها مازحات معها ، فحدثت كوثر التي اقتربت منها تطري جمالها وأناقتها قائلة لها بصوت منخفض حتى لا يسمعنها باقي الفتيات : ــ
ـــ أين نغمات الموسيقى والغناء يا كوثر ، لقد أعلمتك بكل شيء وأوصيتك بالاهتمام .
أطرقت قائلة : ــ
ـــ لقد رفضت وجدانا ذلك وبشدة .. كانت ستتعارك مع
الفتيات قبل قليل بسبب ذلك .
قطبت جبينها غاضبة وتمتمت : ــ
ـــ هل تنوي إفساد حفلتي .. كيف تسمح لنفسها بذلك ..؟
تلفتت كوثر فيما حولها وهي تقول : ــ
ـــ هاهن النسوة يجلين في مهارة .. إن صوتهن يشدو في مرح وسعادة .
تنهدت بنفاد صبر وقالت وهي تشد على كلماتها : ــ
ـــ اذهبي حالاً وأديري الجهاز فوراً .. قبل أن يلاحظن الفتيات شيء هيا بسرعة .
تمتمت بهدوء وفي تردد : ــ
ـــ ولكن يا كلثم .. أخشى أن ...
قاطعتها بصوت منخفض محتد : ــ
ـــ لا تخشى أحداً .. هيا افعلي ما قلت لك .
ارتبكت قائلة : ــ
ـــ يا كلثم .. أرجوك .. أنا أيضاً أخشى غضب وحيد مني ، فلقد أوصاني قبل مجيئي بالتنحي عن ذلك .. قال أن الله لا ينظر للزواج الذي يحي بالغناء والرقص .. وهذه ليلة مباركة لا يجب أن تدنس بهذه المراسم الفاسدة .
سهمت مشدوهة ثم قالت في هدوء : ــ
ـــ ماذا دهاه .. ألا يكفي تحكمه في فستاني وشرطه أن أرتدي ثوباً ساتراً لجميع أجزاء جسدي .. هذه الموضة القديمة .. أيضاً سيفسد الحفلة بمعتقداته الخاطئة تلك .
حملقت فيها بدهشة ثم قالت : ــ
ـــ ماذا دهاك يا كلثم .. انتبهي لما تتفوهين به..
أشاحت بوجهها صامتة فتنحت عنها كوثر ، واقتربت منال تحدثها : ــ
ـــ ما هذا الثوب يا عزيزتي .. إنه جميل وأنيق ، ولكنه بحاجة لأن يكون عارياً بعض الشيء ، لقد كان ظني حول ما سترتدين في مثل هذه المناسبة شيئاً آخر .
نظرت إليها في برودة وقالت : ــ
ـــ من يوم إلى يوم ، يتغير الإنسان من حال إلى حال .
تطلعت إليها باندهاش ، ثم استطردت : ــ
ـــ على فكرة .. لقد وعدتك أن ارقص في حفلتك كما فعلت معي .. ولكن وجدان تدخلت بغلظة ورعونة ومنعت ذلك بإصرار : ــ
ردت عليها بعدم مبالاة ، وهي تحاول أن تخفي حنقها على فظاظتها تلك : ــ
ـــ خير ما فعلت .. فزوجي ملتزم ويرفض ذلك .
شهقت قائلة في شماتة : ــ
ـــ ملتزم ..؟!! .. يا لا المسكينة أعانك الله ..
شعرت كلثم بأنها ستنفجر غيظاً ، ولكنها تماسكت وشدت على أعصابها قائلة : ــ
ـــ لو سمحت .. هلي بمناداة وجدان ابنة عمي ..؟
أحنت رأسها وهي تهمس : ــ
ـــ أمرك يا عروسنا الجميلة ..
ثم ابتعدت ضاحكة وكلثم تغمغم وحدها : ــ
ـــ تباً لك .. إنها تسخر مني .
وفي نفس اللحظة كانت منال تحدث كلثم في نفسها : ــ
ـــ لقد جلبت كل الأنظار لك في حفلتي ، وأنا العروس ونجمة الحفل .. والآن تستحقين ما تفعله بك وجدان .
وواجهت وجدان أمامها صدفة فابتسمت في تصنع وقالت بهدوء لبق مشوب ببعض الميوعة المستفزة : ــ
ـــ العروس الجميلة تود محادثتك يا وجدان .
ابتسمت في رقة واتجهت فوراً إلى كلثم فواجهتها تلك ببرود قائلة : ــ
ـــ لماذا منعت الفتيات من الرقص يا وجدان ..؟
ظلت على ابتسامتها وقالت : ــ
ـــ هاهن النسوة يجلين الجلوات الإسلامية الجميلة ، والكل سعيد هنا .
أجابتها بصوت منخفض في حدة : ــ
ـــ أنا لست سعيدة .. اتركي الفتيات على سجيتهن ولا دخل لك بهن ، لقد سئمت من تدخلك في خصوصياتي .. حاولي أن تتجاهلي على الأقل ...
نظرت إليها في صمت ، ثم نطقت قائلة في حزم : ــ
ـــ عندما أتجاهل أنا ، ويتجاهل غيري ، فإن الفساد سيعم المعمورة ؛ وحينها لن يفيدنا تقاعسنا عن أداء واجبنا لردع المنكرات ، ولن ننال سوى الفشل في مواجهة كل شئ في الحياة ، فكوني عاقلة عزيزتي ولا تفسدي جمالك
بهذه التقطيبة التي تعلو قسمات وجهك من أجل الغناء والرقص المجون ..
ثم أشارت بإصبعها السبابة محذرة في تأكيد وهي تقول
بثقة : ــ
ـــ ولا تحاولي معي .. فأنا لن أسمح بحدوث هذا الشيء في وجودي .
قالت ذلك وغادرت من أمامها وكلثم تغمغم في نفسها : ــ
ـــ من تظن نفسها ..؟
ولكنها تفا جئت بإحداهن تنادي محذرة النسوة بأن العريس قادم وعليهن التستر جيداً .
فحاولت الابتسام لأنها لاحظت بالفعل بأنها لم تبتسم منذ دخولها الصالة ، فلاح لها من بعيد شبح وحيد والنسوة يحطن به مصفقات ومهللات والفضول يعلو وجوههن محدقات نحوه في تمعن ، وكأنه لم يحذرهن أحد بعدم هتك سترهن أمامه ، ولقد ساءه ذلك فأثر الإطراق متجاهلاً كل من حوله ، ونادته إحداهن بأنه عليه رفع رأسه قليلاً من أجل التصوير ، ولكنه أصبح في موقف حرج حيث النساء يتدافعن لتملي كل واحدة منهن عينها منه قبل الأخرى ، فابتسم حينما وجد كوثر أمامه وقد وصلت إليه عنوة وهي تلهث من شدة الزحام حوله ، وقد كانت والدته متمسكة به من جهة وتدفع النساء عنه وكذلك كوثر من الجهة الأخرى وأشارت له لكي يتجه إلى حيث تقف العروس ، وكانت هي بدورها محاطة بالجمع وتقف مطرقة في انتظاره ، وقد
تضاعف توترها ومن ثم حنقها لأن أحداً لم يدير الكاسيت الذي أوصت به عند دخول العريس ولقاؤه بها ، فاقترب منها والنساء يصفقن حوله ورفع طرحتها ثم تأبط ذراعها وتقدم بها نحو المسرح ، ولكنه انتفض لأن إحداهن أدارت الشريط مما أسعد كلثم وهي تستمع إلى نغمات الموسيقى وقد توالت ضربات الطيران وصوت المغني يطرب بكلمات منمقة لهذه المناسبات ، فهتف منادياً على كوثر التي لبت ندائه وهي ترتجف خوفاً منه ومن أن يحرجها أمام الناس .. ولكنه أومأ نحوها برأسه هامساً : ــ
ـــ أوقفي هذا في الحال ..
ارتبكت وهي تنظر إلى كلثم متلعثمة : ــ
ـــ نعم .. ولكن ...
ـــ افعلي ما آمرتك به الآن .. وحسابك معي في ما بعد .
انتفضت وفرت راكضة لتطفئه قبل أن تحل بها الكارثة مع أخيها وقد وجمت كلثم غير مصدقة ما حدث ، وقد أرهبها ذلك ، وما إن أطفئ الجهاز حتى تعالت أصوات النساء بجلوه رائعة أضفت في نفس وحيد السعادة والبهجة وهو يتقدم إلى حيث المسرح وهن ينشدن حولهما بصوتهن الشادي له ولعروسه بهذه المناسبة السعيدة ، فنظر إليها بعد أن جاورها وهمس لها قائلاً : ـــ أهلاً بك إلى جواري مدى الحياة .
اشتد إطراقها وافتر ثغرها عن ابتسامة أودعتها له في هذه اللحظة المباركة ، ولكنها لم تجرؤ على رفع عينيها
إليه ، وقد تعجبت من مخططاتها التي بائت بالفشل أمام رجولته التي طغت عليها من أول لحظة لهما معاً ، وقد أيقنت من اللحظة الأولى لها معه بأنها لن تستطيع رفع عينها فيه قط إلا بصمت واحترام ، وكم عجبت من شخصيتها المتعالية أمام سعيد أين هي منها الآن أمام رجل حياتها ، لما لا تشعر بأنها ستصبح قوية لمواجهته ؛ إن تهديده لشقيقته في هذا الوقت بالذات قد أرهبها وأشعرها بالخوف من المجهول الذي تجهل خباياه ، وخشيت حدوث مالا تتمناه ، فهي كم ستشعر بالخيبة حينا ذاك بعدما ترى نفسها بجانب رجل بينها وبينه أسوار صلبة يصعب تحطيمها ، فدعت في نفسها أن تسير الأمور على خير ما يرام بإذن الله تعالى .
وبعد انتهاء الحفل ، اقتربت منها والدتها هامسة : ــ
ـــ هيا يا عزيزتي .. لقد آن وقت الرحيل .
وقد كانت شاردة وتفكر ، وكأنها تنبهت إلى حقيقة حياتها الآن فقط .. كيف ستكون ، رفعت عيناها إلى والدتها وتأملتها في شرود ، وأخذ قلبها يخفق بشدة مختلجاً بين ضلوعها ، فكررت عليها وكأنها لم تسمع : ــ
ـــ هيا يا بنيتي .. أخاك ووالدك ينتظرانك ليودعانك .
أطرقت ونهضت واقفة ووحيد متمسكاً بها فنادت أم سعيد على الحضور : ــ
ـــ لو سمحتم يا سيدات .. لقد آن الأوان ، سترحل عروسنا الآن ، ونحن نودعكم أيضاً .
ثم احتضنت ذراع ابنتها في رفق وذهبتا معاً إلى بهو الصالة
وبينما وحيد ينتظر بعيداً اقتربت هي من والدها الذي كان
ينتظر قدومها هو وسعيد فتأملاها معاً بتأثر ، ودنى منها والدها وقبلها في جبينها وهو يهمس لها في حنان : ــ
ـــ ابنتي العزيزة .. ألف .. ألف مبروك .. أتمنى لك السعادة الدائمة .
ظلت مطرقة في حياء أمام والدها فتمتم وهو يغادر : ــ
ـــ سأمضي إلى السيارة أجهزها .
واقترب منها سعيد وهو يتأملها في صمت وشبه ابتسامة تلوح على شفتيه ، فنظرت هي إليه نظرات متكسرة بين الحياء والتردد وابتسمت في هدوء وتمتم هو : ــ
ـــ شقيقتي .. من اليوم ستبدئين حياة جديدة ، والله أعلم من متى إلى متى سنحظى برؤياك ، حيث إنك ستعيشين حياة غربة ليس لك فيها سوى زوجك ، هو دنيتك هناك فأرجو لك التوفيق معه ، أما نحن فلن نراك سوى ضيفة عابرة في زيارة ؛ مهما طالت فهي قصيرة بالنسبة لما كنت عليه من قبل معنا ، فأرجو أن لا تكون ذكرياتك عنا سوى الخير والسعادة .. فأنا يا عزيزتي أحبك كثيراً وما توبيخي لك إلا من شدة خوفي عليك ولمصلحتك فقط لا غير .
ابتسمت وقالت في مودة : ــ
ـــ أخي العزيز .. أشكرك كثيراً على مشاعرك الطيبة ، ولكن لا تتعجل الأمر فقد أزوركم بكثرة في المستقبل وأضايقك بتصرفاتي التي لا تعجبك بتاتاً .
هز رأسه وهو يضحك ثم لكز أسفل فكها بطرف إصبعه السبابة وقال : ــ
ـــ لا فائدة منك .. أعان الله وحيداً عليك .
اتسعت ابتسامتها وقالت : ــ
ـــ بل قل .. فليعينك الله عليه .. إن كان متحجراً مثلك .
حملق بها مشدوهاً ثم أطرق قائلاً : ــ
ـــ يا إلهي .. أي فتاة أنت .
ثم نظر إلى وحيد الذي تقدم نحوهما وابتسم له ووالدته تلبسها عباءتها في حذر ، وأتجه الجميع إلى السيارات في فرح وسرور .
* * *
نديم ، الحب ، برنامج ، تحميل ، دليل ، مسلسل ، انشوده ، جديد ، كامل