الوقفة الثانية: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى:
إنّ من المعلومِ لدَينا ـ نحن المسلمين ـ أنّ هذه الحملاتِ المسؤولةَ
واللاَّمسؤولة ليست هي الأولى، ولن تكونَ هي الأخيرة، قال الله عز وجل: {
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ
مِلَّتَهُمْ } [البقرة:120]، وقال: { وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى
يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا } [البقرة:217]، وقال: { إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ } [الأنفال:36].
هذه حقيقةٌ شرعيّة شهِد بصحّتها التاريخ، فلا يزال في الذين كفروا من اليهود
والنصارى وغيرهم مَن يستهزئ برسول الله محمّد صلى الله عليه وسلم وبالدِّين
الذي جاء به، لم يخلُ عصر من العصور منذ بعثَته صلى الله عليه وسلم إلى يومنا
هذا من شانئٍ مستهزئٍ وساخرٍ مستهتِر ومفترٍ أثيم، إلاّ أنّ ظهورَهم
واستكبارَهم في الأرض يختلف باختلاف حال المسلمين في القوّة والضّعف.
إذا تقرّر هذا تساءلنا: ماذا فَعلنَا تجاهَ هذه الاعتداءات الصّارخةِ غيرَ
التأثّر والاستياء والتنديد والاستنكار؟! ما الحلُّ الجذريّ لمثل هذه الحملات
المتتالية؟!
إنّ المسلمين على كثرتهم وتوافر العقول فيهم ووفرة مواردهم وخيراتهم وانبساطهم
في الأرض، إنّهم رغم ذلك كلّه ليس عندهم ـ على سبيل المثال ـ قناةٌ فضائيّة
واحدة تغزو بلدانَ العالم لتعرّف الناسَ بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وأخلاقِه
وشمائله وكمال الدين الذي جاء به وصلاحِيتِه لكل زمان ومكان، ولتفنّد الشبهات
التي يثيرها أعداءُ الإسلام بالأدلّة الواضحة والبراهين الساطعة، ينبغي أن توجد
هذه القناة، بل وقنواتٌ دعويّة متعدِّدة وبِلغات العالم المتنوّعة.
وإذا نظرنا في الشبكة العنكبوتية العالمية التي تُعَدّ من أقوَى وسائلِ الاتصال
والنّشر والإعلام وجَدنا أنّ المواقع التي تُعنى ببيانِ فضائل المصطفى صلى الله
عليه وسلم وشمائله وسيرتِه وسنّته وتدفع عنه شبهات المفتَرين لا تفِي بالغرض
المطلوب والهدف المنشود.
يقول محمد البشير الإبراهيمي مبيّنًا أن الدعوة إلى الله تعالى هي الحلّ
الجذريّ للحملات الغربيّة العدوانية: "لو حافظ المسلمون على فريضة الدعوة في
دينهم وكانت لهم دعاية منظَّمة، يمدّها الأغنياء بالمال والعقلاء بالرأي
والعلماءُ بالبرهان المثبِت للحقائق الإسلامية وبالتوجيه لغاية الغايات فيه وهي
إسعاد الإنسانية وتحقيق السلام بين البشر والقضاء على الطغيان والعدوان والظلم
وإقامة العدل بين الناس ونشر المحبة بينهم، لو فعلوا ذلك وحافظوا عليه في كلّ
أطوار الزمن لكانوا اليوم حاجزًا حصينا بين البشرية وبين الكارثة المتوقَّعة
التي لا تُبقي على برّ ولا فاجر ولا مؤمن ولا كافر.
بل إنني أعتقد اعتقادًا جازمًا أنه لو كان للإسلام دعاة فاهمون لحقيقة الإسلام
محسنون للإبانة عنها ولعَرضها على العقول لرجعت إليه هذه الأمم الحائرة في هذا
العصر، الثائرةُ على أديانه وقوانينه وأوضاعه؛ لأن أديانه لم تحفظ لهم
الاستقرار النفسي والطمأنينة الروحية، ولأن قوانينه الوضعية لم تضمن لهم
المصالح المادية ولم تُقم الموازين القسطَ بين طبقاتهم، ولأن الأوضاع العامة لم
تحقن دماءهم ولم تغرس المحبة بينهم، فهم لذلك تائهون متطلعون إلى حال تغيّر هذه
الأحوال، وفي الإسلام ما يقوم بذلك كلّه ويرجع بالناس إليه وإلى اختياره
حَكَمًا تُرضى حكومته لو وُجد من يدعو إليه على بصيرة ويبيّن حقائقه ويحسن
عرضها على العقول ببرهان الواقع والمعقول.
لم يمض على المسلمين في تاريخهم الطويل عهدٌ كهذا العهد في قعودهم عن الدعوة
إلى دينهم وفي هجوم الدعاية الأجنبية عليهم، والقضيتان متلازمان في الطباع
البشرية الغالبة وفي طبيعة الاجتماع الذي هو أملك لأحوالهم، فمن سننه أن من لم
يدافع دوفع، وأن من لم يهاجم هوجم، وأن من سكت على الحق أنطق غيره بالباطل. ولم
يمض عليهم زمنٌ تألّبت فيه قوى الشرّ عليهم وتألّفت جنوده على ما بينها من
دعوات ومناقضات كما تألّبت في هذا الزمن، فالأديان كاليهودية والمسيحية الغربية
الاستعمارية والبوذية والوثنية بجميع ألوانها والمذاهب الاجتماعية المادية
كلّها أصبحت ألبًا على المسلمين والإسلام، متداعية إلى ذلك عن قصد واتفاق،
صادرة في ذلك عن عهد وميثاق، يسند بعضها بعضا، ويقرض بعضها بعضا العون
والتأييدَ، وأن العقلاء من هذه الأمم المتعاونة على حرب الإسلام مسوقون بأيدي
الساسة الطامعين والقساوسة المتعصّبين والملاحدة المستهترين، حتى أصبح باطن
أمرهم كظاهره وهو أنهم قوّة متحدة لحرب الإسلام، يشارك فيها ذو الدين بدينه،
وذو المال بماله، وذو العقل بعقله، ويشارك فيها الساكت بسكوته.
لا نلوم هؤلاء الأقوام على ما يسرّون من عداوة الإسلام وما يعلنون، ولا على ما
صنعوا بأهله وما يصنعون، فما اللّوم برادّهم على ما هم ماضون فيه بعد أن
ابتَلَوا سرائرَنا وامتحنوا ضمائرنا، فوجدوها عوراتٍ ومنافذَ خالية من الحراسة
التي يعرفونها عنّا، ومن المناعة التي يتوقّعونها منّا، فسدّدوا الغارةَ على
ديارنا فاكتسَحوها، وشدّدوا الحملةَ على خيرات أوطاننا فاستباحوها، ثمّ شنّوا
غارةً أفجر وأنكر على عقولنا ليمسخوها؛ إذ بذلك وحدَه يضمنون التمتّع بخيراتنا
والتلذّذ باستعبادنا.
لا نلومهم على ذلك؛ فما منهم إلا موتور من هذا الإسلام في ماضيه وأحد أطوار
تاريخه، فهو حاقد عليه يتخيّل في شبحه مفوِّتًا للعز والسلطان، ومقيِّدًا
للشهوات في اتباع الشيطان، أو مانعًا من الانطلاق الحيواني في بغي الإنسان على
الإنسان، وما ينقمون من الإسلام إلا أنه يقيّد الغريزة الحيوانية عن الظلم
والتسلّط والشهوة، ويفيض عليها من النور السماوي ما يرفعها إلى أفقٍ أسمى، وهم
بعد ذلك عَمون عمّا وراء ذلك الذي ينقمونه من خير في الإسلام ونفعٍ، ولا نملك
لهم أن يهتدوا إلى ما في الإسلام من عزٍّ بالله وعدلٍ في أحكامه بين عباده
رحمةً بهم وإحسانا، وإلى ما فيه من انطلاق ولكن إلى الآفاق العليا الملكية.
إنما نلوم أنفسنا ونلوم قومنا على التفريط والإضاعة، وعلى إهمال الدعوة لدينهم
والعرض لجماله ومحاسنه، وعلى التخاذل في وجه هذه القوة المتألِّبة التكالبة
عليهم وعلى دينهم، حتى أصبح سكوتنا وإهمالنا عونًا لها على هدم ديننا ومحو
فضائلنا والقضاء على مقوّماتنا، فأغنياؤنا ممسكون عن البذل في سبيل الدعوة إلى
دينهم، وكأنّ الأمر لا يعنيهم! وكأنّ الدين ليس دينَهم! وكأنهم لا يعلمون أنّ
هذا التكالبَ إن استمرّ لا يبقي لهم عَرَضًا ولا مالا ولا متاعا! وقد بلغت
الغفلة ببعضهم أن يعين الجمعيات التبشيرية المسيحية بماله، وكأنّه يقلّد عدوّه
سلاحًا قتّالا يقتل به دينه وقومَه! ولم يبق عليه من فضائح الجهل إلا أن يقول
لعدوّه: اقتلني به.
إنّنا لا نكون مسلمين حقًّا ولا نستطيع أن ندفع هذه الجيوشَ المغيرة علينا وعلى
ديننا تارة باسم العلم وتارة باسم الخير والإحسان وأخرى باسم الرحمة بالإنسان
إلا إذا علمنا ما يُراد بنا وفقهنا الغايات لهذه الغارات وتحدّيناها بجميع
قوانا المعنوية والمادية، وحشدها في ميدان واحد هو ميدان الدفاع عن حياتنا
الروحية والمادية، ولا يتمّ لهذا الشأن تمام إلا إذا أقمنا الدعوة إلى الله
وإلى دينه الإسلام على أساس قويٍّ من أحجار العالم الرباني والخطيب الذي يتكلّم
بقلبه لا بلسانه والكاتب الذي يكتب بقلمه ما يمليه عقله والغني المستهين بماله
في سبيل دينه، ثم وجهنا هذه الدعوة إلى القريب قبل الغريب، إلى المسلم الضال
قبل الأجنبي، فإذا فعلت الدعوة فعلها في نفوس المسلمين وأرجعتهم إلى ربهم
فاتصلوا به فتمسكوا بكتابه وهدي نبيه وتمجّدوا بتاريخه وأمجاده وفضائله ولسانه
كنّا قلّدناهم سلاحا لا يفلّ، وأسبغنا عليهم حصانة روحية لا تؤثّر عليها هذه
الدعايات المضلّلة، وحصانة أخرى مادية لازمة لها لا تهزمها الجموع المجمعة ولو
كان بعضها لبعض ظهيرًا.
المسلمون في حاجة أكيدة إلى دعاية داخلية تهدي ضالهم وتصلح فاسدهم، تبتدئ من
البيت، وتجاوزه إلى الجار والقرية، حتى تنتظم المجتمعَ كلّه، فإذا عمِرت القلوب
والبيوت والمجتمعات بمعاني الإسلام الصحيحة أعطت ثمراتها الصحيحة وجاء نصر الله
والفتح ربطًا للوعد بالإنجاز ووصولاً إلى الحقيقة على المجاز"[1].
الوقفة الثالثة: قل هو من عند أنفسكم:
في معركة أحد قُتِل سبعون من الصحابة رضي الله عنهم، واعتُديَ على النبي صلى
الله عليه وسلم، فكُسِرت رَبَاعِيّته، وهُشِّمت البَيْضة على رأسه، وسال الدم
على وجهه، ولمّا تساءلوا: أنَّى هذا؟! قال الله تعالى مبيِّنا السببَ الحقيقيّ:
{ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ } [آل عمران:165].
إنّ البعدَ عن شرع الله تعالى هو الذي يجرّئ العدوَّ علينا، ومن تأمّل حالَ
المسلمين اليومَ وما آلت إليه أوضاعهم من التنكّر لدين الله تعالى والتفرّق
شيَعًا وأحزابًا والتباغض والتناحُر فيما بينهم لا يستغرب أن يصدرَ من أعدائِهم
استهزاءٌ وسخرية بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وكذِبٌ وافتراء وتشويه لدين
الإسلام.
ألا يوجد بيننا ـ نحن المسلمين ـ من يزعزع ثوابتَنا ويشكّك في مسلَّمات ديننا؟!
ألا يوجد بيننا ـ نحن المسلمين ـ من يسبُّ الله تعالى في حال الغضب بل وفي حال
الرضا؟! ألا يوجد بيننا ـ وهذا أدهى وأمرّ ـ من يزعم أنه يمكن أن يجتمعَ إيمانٌ
بالله وسبٌّ لله؟! ألا يوجد بيننا ـ نحن المسلمين ـ من يستهزئ بالنبيّ صلى الله
عليه وسلم من طرفٍ خفيّ على أهل الغفلة جليٍّ عند ذوي البصائر؛ كالاستهزاء ببعض
سنَنِه والسخرية ببعض تشريعاته؟! ألا يوجد بيننا ـ نحن المسلمين ـ من اتّخذ
حكمَ المصطفى صلى الله عليه وسلم خلفَه ظِهريًّا وزعم أنّ التحاكمَ إليه
تخلُّفٌ ورجعيّة؟! ألا يوجد بيننا ـ نحن المسلمين ـ من يسعى في الأرض فسادًا
بإفساد الشباب والفتيات وإلهاب غرائزهم عبر قنوات فضائيّة فاضحةٍ فاسقة فاسدة
فاجرة؟! ألا يوجد بينَنا ـ نحن المسلمين ـ من يستبيحون دماءَ الأبرياء وأموالهم
وأعراضهم باسم الإسلام؛ فكانوا فتنة للذين كفروا ونكبةً على الإسلام وأهله
وجسرًا للأعداء؟! ألا يوجد بيننا ـ نحن المسلمين ـ من يسبّ أحبَّ الناس إلى
الخليلِ صلى الله عليه وسلم ويطعَن فيهم، وهم صحابته وزوجاته رضي الله عنهم؟!
ألا يوجد بيننا ـ نحن المسلمين ـ من يرى العزّةَ في تقليد أعداء الله من اليهود
والنصارى وغيرهم ويفرَحون في أفراحهم ويألمون لآلامهم؟! ولن تجدَ لقائمة "ألا
يوجد بيننا" نهايةً، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
"إن أعداءنا الذين ملكوا رقابنا واحتلّوا أوطاننا وسامونا الذلة والهوان
واستعبدونا شرَّ استعباد إنما استعانوا بنا علينا، فمتى طلبوا خائنًا لوطنه
منّا وجدوا العشرات، ومتى التمسوا جاسوسًا يكشف لهم عن أسرارنا ويدلّهم على
عوراتِنا وجدوا المئات، ومتى التَمسوا ناعقًا بالفرقة فينا أو ناشِرًا للخلاف
بيننا وجدوا الآلاف... وما ذلك إلاّ لأن نفوسنا أنهكتها الرذائل وتَحيَّفتها
النقائص"[2].
انظر لحالِ المسلمين مع سنّةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم يرجع إليك البصر
خاسئا وهو حسير، ثم انظر إلى تأثّرهم واقتدائِهم ببعض الشخصيّات الغربيّة في
الملبَس والكلام والهيئَة والشعر وغير ذلك ترَ العجَب العجاب، إذا دُعوا إلى
سنّةٍ مِن سنَن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم قالوا: هذه عادةٌ وليست عِبادة،
أولم يكفِهم أنّها عادة نبيِّهم؟! ثمّ لمّا وفّر بعضُ اللاعبين في الأندية
الغربية لحيتَه على شكل خيطٍ رقيق انتشرَت هذه المُثلَةُ في أوساطِ الشباب!!
وأقسِم بالله ـ إن شاء الله ـ غيرَ حانثٍ أنّه لو اتّخذ فنّان أفِن أو فنّانة
عفِنة من الغربيّين سواكًا يتسوّك به لرأيتَ كثيرًا من شبابنا وفتياتِنا
بمساويك يتسوّكون بها، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم. أبَعدَ هذا
نستغرِب تطاولَهم على نبيِّنا وتجرّؤهم على مقدّساتنا؟! فلا تلوموهم ولوموا
أنفسكم، إنّهم لم يتجرّؤوا ولكن ـ وللأسَف ـ جرّأناهم.
وإذا أردتَ مثالا حيًّا ناطقًا صارخًا لإذلال المسلمين لأنفسهم أمام أعدائهم
فارجع قرنًا إلى الوراء، وتأمّل هذه القصّةَ التي عايش الشيخ محمّد رشيد رضا
أحداثها، وخلّدها في مجلّته المشهورة حيث قال: "ما أبعدَ الفرقَ بين الشيخ
علّيش في تحمّسه الدينيّ وغيرته على الإسلام في مذاهبه وتقاليده، وبين أولاده
وأحفاده الذين لم يرِثوا منه علمًا ولا خُلُقًا، فهم أوّل من مثَّل الإسلام
أمام الإفرنج في معرض الهُزء والسّخرية؛ إذ جمعوا لهم بعض الزعانف المنتسبين
إلى الطريق، وجعلوا يرقصون ويذكرون؛ ليصوّرَهم الإفرنج في تلك الحالة، ويثبِتون
صوَرهم في الكتب مبيِّنين أنّ رقصَهم على تلك الصفة الشنيعة من عبادات الإسلام.
ثم بلغنا في العام الماضي أنّ الشيخ عبد الرحمن علّيش قد وقف قطعةَ أرض بحارة
الجوارِ القريبة من الأزهر، بنى فيها مسجدًا باسم "همبرتو الأوّل" ملِك
إيطاليا؛ لتقام الصلوات فيه عن روح الملِك المتوفَّى، ويكون تِذكارًا له،
وسلَّمه لحكومة إيطاليا، وهي بدعة غريبة لا يعرَف لها نظير في الإسلام"[3].
إنّها دعوة صادقة حارَّة لكلّ مسلمٍ ومسلمة يحبّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن
يراجعَ نفسَه وأن يصحِّح مسارَه وأن يرجع إلى دينه وأن يتمسّك بسنّة نبيّه وأن
يعتزّ بشرع ربّه، وهي أيضا دعوة صادقة مخلِصة لمن آتاه الله تعالى من أمر هذه
الأمّة شيئًا أن يعملوا على تنشِئة المسلمين على حبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم
الحبَّ العمليَّ ومعرفة شمائله وفضائله وسيرته عبرَ مناهجَ دراسيّة متطوِّرةٍ
تتابِع ما استحدثه الأعداء من شبُهات حول الإسلام ونبيّ الإسلام. وهذا برهانُ
صِدق هذه الغيرةِ المحمودَة والحميّة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأمّا
ردود الأفعال بلا عمَلٍ ثابتٍ وفعلٍ دائم ومنهَج مستمرّ فإنّما هي كالطّبل
يحدِث صوتًا عظيمًا وليس بداخله إلا الهواء.
الوقفة الرابعة: وإنك لعلى خلق عظيم:
إنّه مهما حاول أعداءُ الله النيلَ من النبي صلى الله عليه وسلم والطعنَ فيه
وتشويه صورته فإنهم لا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً؛ قال الله تعالى: { يُرِيدُونَ
أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ
يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [التوبة: 32]، ونبيّنا محمد صلى
الله عليه وسلم هو حاملُ نور الله، وقال عز اسمه: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ
وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [الصف:9]، فإظهار دينه إظهارٌ له صلى الله عليه
وسلم ولفضائله ومكارمه وسموّ أخلاقه وإحكام تشريعاته.
وإنّ هذه الحملات الشرسة على نبيّ الإسلام تساهم من حيث لا يشعر أصحابها في رفع
ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم في الآفاق ونشر فضائله ومحاسنه وتعريف الناس
بدعوته وأخلاقه، وما كان هذا ليكون لولا أن استفزّ الشيطان هؤلاء السفهاء فأوحى
إليهم زُخرُفَ القول والفعل، فتكلّموا في نبيّنا ما تكلّموا، وأجرموا في حقّه
بما رسموا، وليس بين الإنسان العاقل المتجرّد للحقّ وبين أن يقتَنع بدعوةِ
محمّد صلى الله عليه وسلم إلاّ أن يطّلع عليها ويفهَمهَا على حقيقتها.
لقد ضرب رسول الإسلام والسلام محمّد صلى الله عليه وسلم لكلّ خلُقٍ حميدٍ
أمثلةً ليس فوقَها مِثال، صبر على من آذاه، وحلم على من ظلمه، وعفا عمّن أخطأ
في حقّه، وما انتقم لنفسه قطّ، تواضع بين دواعي العزّ والكبرياء، هو بحقٍّ أخٌ
وابن أخٍ كريم، صلوات الله وسلامه عليه.
دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم ـ أي:
الموت ـ، فقالت عائشة رضي الله عنها: فَفَهمتُها فقلتُ: وعَليكم السّام
واللّعنة، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مهلا يا عائشة، إنّ الله
يحبّ الرفقَ في الأمر كلِّه))، فقلتُ: يا رسول الله، أولم تسمع ما قالوا؟! قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد قلتُ: وعليكم))[4].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتَى نفر من يهود، فدعَوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى القُفّ ـ اسم وادٍ بالمدينة ـ، فأتاهم في بيت المدارس، فقالوا:
يا أبا القاسم، إن رجلا منّا زنى بامرأة، فاحكم بينهم، فوضَعوا لرسول الله صلى
الله عليه وسلم وسادةً، فجلس عليها ثم قال: ((ائتوني بالتوراة))، فأتِيَ بها،
فنزع الوسادةَ من تحته، ووضع التوراةَ عليها، ثم قال: ((آمنتُ بك وبمن
أنزَلَك))، ثم قال: ((ائتوني بأعلمكم))، فأتِيَ بفتًى شابّ، ثم ذكر قصّة
الرّجم[5].
هذا احترامُ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم لكتابهم على مَا فيه من تحريفٍ وتبديل،
فأين احترامُهم لديننا وكتابِنا ورسولنا ومقدّساتنا؟! وما تدنيسُهم للمصحف
الشريف عنّا ببعيد.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما يهوديّ يعرض سلعته أعطي بها شيئا كرِهَه
فقال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فسمعه رجلٌ من الأنصارِ فقام فلطم وجهه
وقال: تقول: والذي اصطفى موسى على البشر والنبي صلى الله عليه وسلم بين
أظهرنا؟! فذهب إليه فقال: أبا القاسم، إنّ لي ذمّةً وعهدا، فما بال فلان لطم
وجهي؟! فقال: ((لِمَ لطمتَ وجهَه؟)) فذكَرَه، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم
حتى رئِي في وجهه ثم قال: ((لا تفضِّلوا بين أنبياءِ الله؛ فإنّه ينفَخ في
الصور، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثمّ ينفخ فيه أخرى
فأكون أوّل من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أم
بعث قبلي، ولا أقول: إنّ أحدا أفضل من يونس بن متى)).
نديم ، الحب ، برنامج ، تحميل ، دليل ، مسلسل ، انشوده ، جديد ، كامل
المنتديات للبيع : للتواصل واتساب
967772204567+