كانت بنا "رؤوفة"عارف أبو حاتمarefabuhatem@hotmail.com
الأربعاء الماضي، كان يوم حزن مكتمل، يوم أكتسى كل الحزن والأسى، كل
الوجوه قاتمة، شاحبة، أخاديد الدموع تشق الخدود، الأخبار المفزعة لا تتوقف،
يا إلهي كم هو قاسٍ علينا هذا الزمن، وهذا النظام البربري، المتفنن في
إزهاق الأرواح وفتح أنهار الدماء الممتدة من الصالة الرياضية في طريق عمران
حتى دار الرئاسة في شارع الستين.
تدفقت أحزان الأربعاء منذ العاشرة صباحاً: (وفاة الدكتورة رؤوفة حسن في
إحدى مستشفيات القاهرة) ذهبت أبحث في كل المواقع الإخبارية عن أملٍ في خبر
نفي، لا أريد لهذا الوجه المستنير أن يفارقنا الآن، وهو الذي انتظر سقوط
النظام، وولادة الدولة المدنية الحديثة منذ عشرات السنين.
المرأة العصامية التي شقت طريقها في العلم والبناء منذ دراستها في مدرسة
سيف بن ذي يزن بصنعاء منتصف السبعينات، وبعدها كان على الطالبة أمة الرؤوف
حسن الشرقي أن تغادر مع أبيها إلى إب، حيث نُقلت وظيفته القضائية إلى هناك،
ثم إلى صنعاء القديمة، لتكون القاهرة أولى محطاتها الإنفرادية، فيها درست
البكالوريوس في الإعلام ثم الماجستير في الولايات المتحدة، والدكتوراة في
جامعة السوربون بفرنسا، لتعود إلى اليمن أكاديمية بثلاث لغات: الإنجليزية،
الفرنسية، الألمانية، وتؤسس قسم الإعلام في كلية الآداب عام 1991م، ثم تسعى
لتحويله إلى كلية مستقلة عام 1996م، وتعمل فيها أستاذة للإعلام والتنمية.
عاشت رؤوفة حسن، متمسكة بليبراليتها، مدافعة عن قيمها، إمرأة تملك مشروعها
الخاص المستقل، وتعمل عليه محاضرة في جامعات ألمانيا وهولندا وفرنسا
والدنمارك وتونس واليمن، وفي العام 2001 أسست مشروعها الجديد: مؤسسة تنمية
البرامج الثقافية، وبدأت أول مشاريعها الهامة، إذ عمدت إلى توثيق ما
أهملناه من تاريخ، رأت "رؤوفة"، أن في أزياء وملابس الساسة والرموز دلالات
عميقة يجب أن توثق كجزء من هوية الإنسان اليمني، قابلت كل الوجوه، وشكرت كل
من دعمها: الشيخ عبدالله الأحمر، يحيى صالح، عمر الأرحبي.
كثيرة جداً هي المرات التي أنست فيها للجلوس مع الدكتورة رؤوفة.. أتذكر في
مارس 2004 طلبت مني تقديم ورقة عمل عن رداء الدولة ودلالة الرموز
السياسية، فعلت، وتم توثيق ورقتي في كتاب نشرته جامعة أولدنبرج الألمانية،
ومن يومها وهي تقول لي: عليك مسئولية كبيرة تجاه المجتمع، فانتبه لدورك، ثم
تبتسم: شوف عاد أكلمك باعتبارك ابني، وأطلب منك ترك القات.
وفي نهاية العام الماضي لقيتها، وهي ضامرة الوجه، بعسجة رأسها التي ما
فارقتها، ورداءها اليمني المحافظ، وحين رأتني ابتسمت: "مبروك، مبروك، عادنا
دريت أنك قطعت القات".
أتذكر أن "رؤوفة" قالت لي مرة أن علي حسن الشاطر أوقف عمودها الأسبوع في
مطبوعة 26 سبتمبر ثلاث مرات، وأن الرئيس أعادها، وقال للشاطر: "خلي رؤوفة
تكتب اللي تشتي، أنا فاسح لها"، وفي مطلع العام 2000م استضافت اليمن
المؤتمر الدولي للديمقراطيات الناشئة، من أجل تجميل وجهها المشوه، فكتبت
الدكتورة رؤوفة في عمودها بصحيفة سبتمبر: (أن سيارات الضيافة التابعة
للرئاسة، كانت تقل المشاركين وكبار الضيوف وعلى نوافذها صور الرئيس بالبزة
العسكرية) وهو ما يعني تشويه وجه وسمعة الديمقراطية اليمنية، وفي آخر
المقال كتب الشاطرحسن:
من المحرر: ما نشر أعلاه لا يعبر عن رأي وموقف الصحيفة، وإنما عن وجهة نظر
الكاتبة التي لم تتمكن من رؤية الديمقراطية الحقيقية في اليمن!!.
كانت طلة رؤوفة حسن بمثابة زخات عطر ملطف لمؤتمرات نقابة الصحفيين، حيث
يحتشد أكثر من 1000 صحفي في قاعة واحدة، يعتقدون ويتحدثون ويقترحون
ويطالبون، ثم يتشاجرون إلى حد العراك، ليكون صوت رؤوفة من المنصة هو الفصل:
"يا جماعة لازم نثبت إننا قادة رأي مش أولاد يتضاربوا" وتدير المؤتمر
بأكمله، تصل الليل بالنهار ليومين متتاليين، لا وجبة لها غير التفاح
والماء.
أتذكر الآن رؤوفة التي حاورتها للصحف مرات عدة، كيف وقفت إلى جانبي في
محنة الماجستير، إذ تقدمت للدراسة ضمن الدفعة الأولى 2008م، وتم رفض اسمي
بحجة أن كتاباتي ناقدة ولاذعة.
وقف الكل في وجهي، وساندني عميد الكلية الدكتور محمد عبدالجبار والدكتورة
رؤوفة، أتذكر صوتها الحنون، يهاتفني الثانية بعد منتصف الليل: عفواً يا
عارف اتصل بك في هذا الوقت المتأخر، بس أنا في المطار مسافرة سويسرا واتصلت
الآن بالعميد وقلت له: (أنتم في كلية الإعلام تعلموا الناس حرية التعبير،
واليوم تحاسبوا عارف على مقالاته المعارضة، إذا لم يتم قبوله فبرنامج
الماجستير سيتوقف نهائياً).
وسرت الأيام وأصبحت الدكتورة رؤوفة أستاذتي في الماجستير تدرسني مادة
الإعلام والتنمية، ابتكرت لنا منهجاً جديداً، مصطحبة خبرتها الطويلة في
التدريس بأوروبا؛ قالت لنا في اليوم الأول: شباب أنتم نخبة، ومافيش حاجة
إسمها منهج محدد، كل واحد منكم يضع مفردة هامة للإعلام والتنمية، فعلنا
ووضعنا 16 مفردة، بعددنا، وأصبحت هي منهج المادة وعند الإختبار قالت: كل
واحد منكم يكتب سؤالاً مهماً من المادة ويضع له إجابة نموذجية، ويسلمها
غداً، فعلنا ووضعت مثلنا سؤالاً وإجابة، وقالت الآن لدينا 17 سؤالاً
وإجابة، سيكون الإختبار النهائي هو ثلاثة أسئلة منها.
ونظراً لمشاغلها الكثيرة كانت تطلب منا أن نحضر لدراسة مادتها يومين في
الأسبوع بمقر مؤسستها بجوار مجلس النواب وفي اليوم الأخير للدراسة، فاجأتها
بإحضار "تورته" ومشروبات للاحتفاء بيوم وداع الطلاب لأستاذتهم واحتفاءً
بمعروف زميلتنا سماء الصباحي لنا، وفي منتصف الوقت حضر عبده بورجي السكرتير
الصحفي لرئيس الجمهورية، فهو معنا طالب (منازل)!!
وأتذكر بألم فرحة الدكتورة رؤوفة وصيحتها، حين أخرج لها بورجي كذبة
الرئيس: توجيهاً رئاسياً إلى مؤسسة الأشغال العسكرية للمقاولات بترميم
وإصلاح مبنى المؤسسة على نفقة الدولة، فقد كانت تحلم بتحويل مؤسسة تنمية
البرامج الثقافية إلى متحف للملابس السياسية، ورموز الدولة من أعلام وطنية
وعملات وصور تاريخية، وقد قطعت شوطاً كبيراً في صنعاء وعدن والمكلا وسيئون
والمهرة وسقطرى، وحتى الآن لم تتم كذبة الرئيس بتريم المؤسسة/ المتحف.
بعد إدارتها النادرة للمؤتمر الثالث لنقابة الصحفيين وتلطيفها للأجواء
المتشاحنة، كتبت عنها مقالاً لا يليق إلا بها، فبعثت لي برسالة شكر هي أكبر
قيمة من مقالي، ثم عادت تتصل بي: "أنا ما أقدرش أشكرك على مقالك، والآن
فيصل جلول أتصل بي من فرنسا يقول: لو كان عارف يقدرك سيقترح أن تكوني
النقيب القادم، لكنه اقترح بالمقال أن تكوني نقيباً شرفياً للصحفيين، وهذا
معناه أن عارف يريد يقول لك: أنك عجوز وما عد تنفعي نقيب"، ضحكت، وتابعت:
"شوف على تافه يشتي يفتن بيننا"... رحمك الله يا كبيرة.
وجلول (لمن لا يعرفه) هو كاتب لبناني مرتزق مع نظام الرئيس صالح، يتقاضى
سبعة آلاف دولار شهرياً من التوجيه المعنوي، وتسلم له عبر السفارة اليمنية
بباريس.
غابت رؤوفة كثيراً منذ مطلع العام، فبعثت لها بالإيميل أسأل عن حالها،
فجاءني ردها الباكي الحزين: "أنا تعبانة في القاهرة، قتلوا أختي أمة الولي
يا عارف، قتلها بالخطأ شاب طائش يسوق تكسي، وهي واقفة أمام بيتها". كان
الحزن يتعاظم مع كل حرف في رسالتها.
وفي كل رسالة تخبرني أنها في شقتها بالقاهرة تنتظر الحل، أو الرحيل، لها
أو للنظام، قبل وفاتها بـ12 يوماً اختتمت مقالها الأخير: "الآن أودعكم،
وأفرغ قلمي من حبره" جملة أزعجتني لامرأة أدركت قرب الرحيل ودنو الأجل، وفي
لحظة بلغت فيها القلوب الحناجر أوصت بالصلاة عليها في ساحة التغيير
بصنعاء، لتشارك بجثمانها في إسقاط النظام، غير أن من خطفوا البلاد 33 سنة،
اختطفوا جثمان (رؤوفه) من المطار، وصلّوا عليها ودفنوها حيث شاءووا، أما
نحن فقد صلينا عليها غائبة حاضرة، وتوجه 2 مليون متظاهر إلى الله بالدعاء
بالمغفرة والرحمة لرؤوفة حسن.. رحمك الله وطيب ثراك، وألحقنا بك صالحين،
غير مفتونين.
أعود إلى حزن الأربعاء، فقبل غياب النهار، داهم بلاطجة النظام مسيرة
الشباب السلمية ورشوا رصاص غيظهم وحقدهم، فقتلوا 13 شهيداً وجرحوا 200
واحتجزوا أكثر من 80 مصاباً ومتظاهر في ساحة الصالة الرياضية، كنت اتنقل
بين الساحة والمستشفى الميداني أبحث عن معلومات جديدة أقدمها للقنوات التي
تتصل بي، أرعبني هذا المنظر الذي قاومته كثيراً، حتى فشلت واستسلمت للحزن،
ولا ملجأ من الهروب إلى "النت"، أبحث عن أنيسي، أصيح به: أين أنت كل هذا
الوقت؟!.. فيرد: أتابع "سهيل" وانفجر من البكاء.. حزني عليك.. حزني على
وطني.
عن الناس