«ويكيليكس».. تأكيد لنظرية المؤامرة وحريق للمخابرات
فائق فهيم
أصبح جوليان أسانج المولود في أستراليا عام 1971 الشخصية الأشهر عبر الشهور الماضية، وهو يتعرض الآن لحملات تطارده وتعمل على اصطياده وتصفيته رغم الهلع الذي أصاب القوى العالمية من وثائقه. فكما هو معروف بدأ الأمريكيون بالتحديد يمارسون معه الأسلوب المتبع مع بن لادن، مما دفعه إلى اللجوء إلى أساليب التنكر من تغيير للملامح وتبديل للمواقع للإسراع في التنقل بين دولة وأخرى.
ويقول الرجل إنه يمثل معسكر الأخيار ضد الأشرار، الذين يتخفون وراء السرية لممارسة كل ألوان القهر والقمع والفساد والتآمر، وقد توالت الوثائق التي أثبتت تورط الولايات المتحدة في مؤامرات عديدة خاصة في أفغانستان. فالحكومة الأمريكية اختارت واجهة إعلامية تقوم على فكرة تمركز الإرهاب في أفغانستان، ولكن الحقيقة أنها كانت تريد أن ترث ما تركه الروس وخاصة النفط، وفي العراق نجحت وسائلها الإعلامية في تجميع العالم ضد رمز الفساد ـــ كما زعمت ـــ وهو صدام حسين، وكان الهدف أمركة المنطقة، أي أن وثائق أسانج أكدت أن واشنطن لا تمارس إلا التآمر مع إطلاق عملائها في الإعلام لقتل أي حديث عن المؤامرة، لتبقى نشطة في الظلام.
في تموز (يوليو) الماضي نشر أسانج 77 ألف وثيقة ونظرا لأنه خبير موهوب في المعلوماتية أسس شركة للخدمات المعلوماتية في أستراليا، وفي عام 2006 أسس موقع ويكيليكس مع عشرة أشخاص يعملون في مجال حقوق الإنسان ووسائل الإعلام والتكنولوجيا المتقدمة.
في البداية كان الموقع يضم مليونا و200 ألف وثيقة، ولكن قاعدة بياناته تتلقى اليوم عشرة آلاف وثيقة جديدة، وهذه مصيبة كبيرة بالنسبة لأجهزة الاستخبارات التي ترتع دائما في السرية ويضايقها أية أضواء كما يتضايق الخفاش من النور المبهر.
وقد حرص أسانج على أن يخرج للعالم في صورة المنقذ، وهو بذلك يدق المسامير في تابوت منكري نظرية المؤامرة ويخرج لسانه لأجهزة المخابرات، وبدأ الرجل يكتسب شعبية متزايدة بعدما أصبح يواجه أعداء جادين وحريصين على تدميره وتحطيم إنجازه. يقول أسانج إن أهدافه تتلخص في ثلاثة أمور، الأول: كشف التجاوزات، والثاني: إنقاذ الوثائق التي تصنع التاريخ، والثالث: تحرير الصحافة.
حول النقطة الأولى يقول أسانج إنه شعر بذعر شديد من لجوء دولة كالولايات المتحدة إلى التعامل بوجهين متناقضين في كل ما يتعلق بسياستها الخارجية، وأذهله أنها لا تكف عن اتهام الآخرين بالديكتاتورية والقمعية وامتهان حقوق الإنسان. وجاءت وثائقه لتثبت أن واشنطن هي المصنف الأول في عالم التجاوزات دون منافس، بل إنها الساتر الذي يغطي كثيرا من المجرمين في أنحاء العالم، أما من يعترض مصالحها فهو مجرم وإرهابي. أما فيما يتعلق بالنقطة الثانية وهي إنقاذ الوثائق التي تصنع التاريخ، فقد شكا بمرارة من أن التاريخ يتعرض في كل بلاد العالم للتزييف والتزوير ولا يكتبه إلا الأقوى الذي يدير الأمور وبما يبرز إيجابياته ويظهر خصومه في صورة العاجز أو الخائن. والوثيقة هي الأمل الوحيد الذي يظهر الحقائق، وقد أذهله حرص الدول الكبرى على الحصول على كل الوثائق وقراءتها كما يحلو لها حيث أصبح من المستحيل أن نصدق أحداثا بأكملها أثرت في مجرى الحياة البشرية.
النقطة الثالثة وهي تحرير الصحافة فسرها أسانج بأنه لاحظ ضعف المعالجات الصحافية لافتقارها إلى المعلومات الموثقة ولخوف أعداد كبيرة من الصحافيين من الدول الكبرى، وشرح كيف مات مئات الصحافيين في ظروف غامضة في معظم بقاع العالم، لذلك رأى أنه إذا ما شرع يضع الجرس في رقبة القط، فإن معظم الصحافيين ستخلصون من الخوف، بل سوف تنتهي لديهم مشاعر الرعب من الرقيب الذي يتحول تدريجيا إلى جزء من شخصية الصحافي فلا يمكن أن يبدع، لأنه يصبح رقيبا شديدا على نفسه.
جدير بالذكر أن أول سبق صحافي حققه كان شريط الفيديو الذي صورته كاميرا إحدى المروحيات العسكرية عن جرائم ارتكبها الجيش الأمريكي في بغداد، ولم ينكر أن زملاءه الذين كشفوا نسف المخبأ الذي لجأ إليه المدنيون من الغارات الأمريكية كان حافزا له على الاستمرار في إخراج رأس الثعبان الأمريكي من الشق الذي يختفي فيه، مع استمرار أعوانه في الترويج للحرية والليبرالية وحقوق الإنسان.
ويعد أسانج على تأديب أجهزة الاستخبارات بفضح ما تعتبره إنجازات تحت ستار السرية، وهي لا تتردد في القتل وإطلاق الإشاعات وممارسة القهر لمن تناصبهم العداء. وقد قال في هذا الصدد إنه يرى أن السرية مهمة في العديد من الأمور، لكن يجب عدم استخدامها للتغطية على الانتهاكات، وانتظر اليوم الذي تتصرف فيه الأجهزة مثل لاعب السلة الذي يرتكب خطأ فيرفع يده دلالة على الاعتذار واحترام البشر.
وقد حصل أسانج على عدة جوائز عالمية في مجال حقوق الإنسان والصحافة، منها جائزة منظمة العفو الدولية عام 2009 بفضل كشفه للاختفاء القسري والإعدام الجماعي بغير محاكمة للمعارضين في كينيا، إلى جانب جائزة مجلة ''إيكونومست'' لمقاومة الرقابة عام 2008، وتعليقا على ذلك قال أسانج إن العالم لا ينقصه إلا بعض من يتمتع بالجرأة والنزعة للتضحية في سبيل البشرية لإيقاف سطوة القامعين الذين وصفهم بالجبن.
ولا تسمح المساحة بأن ننشر الكثير من آلاف الوثائق التي نشرها ''ويكيليكس''، ولكن من الصعب مقاومة نشر بعض النماذج الصارخة، ومنها وثيقة حول المنشآت الحيوية التي قد تتعرض لهجمات إرهابية معظمها خاص بالنفط وأنابيبه، ما يؤكد أن هجمة أمريكا العسكرية كانت للنفط على عكس ما يروق لها أن تردد من أنها من أجل العدالة وحقوق الإنسان! إما وثائق الدور الإيراني في العراق فتكشف الحالة البائسة للقوات الأمريكية في العراق، ما دفع واشنطن إلى تسهيل مهمة المالكي مرشح إيران عسى أن تساعد إيران أمريكا على الخروج مرفوعة الرأس، هذا إلى جانب العديد من البرقيات حول إيران التي أثبتت أن أمريكا تضغط على إيران في الورقة النووية مقابل تحالفات مستقبلية وتهدئة للعراق. وجاء نشر وثيقة إعدام صدام حسين بمثابة وخزة في صدر واشنطن لما أحاط بالحادث من استفزازات شيعية. كذلك أثبتت الوثائق صعوبة مهمة أمريكا في محاربة الإرهاب، لأنها تخلط بين الإرهاب وبين مصالحها، حيث تدين أي رافض لسياساتها وتعتبره إرهابيا مما أضعف مصداقيتها وقلل فعاليتها، كذلك أثبتت الوثائق أن تمويل طالبان يمضي على قدم وساق على عكس ما قاله ريتشارد هولبروك من أن القاعدة تحتضر ماليا. وحظيت لبنان بوثائق تدل على تآمر أمريكي ـــ إسرائيلي لضرب لبنان ''لاستئصال شأفة حزب الله'' مع أن الحرب ستضر السنة والمسيحيين بدرجة أكبر وهم الذين تعلن واشنطن أنها حليفتهم. وقد نالت قناة الجزيرة بعض الوثائق التي أعلنت أن الحديث عن استقلالية قناة الجزيرة عن الدولة لا يتجاوز اللغو الفارغ، لأن قطر تستخدمها لتحقيق أهداف سياسية من خلال تخويف زعماء محليين بنشر ما لا يروقهم إذا لم يمتثلوا لما تريده قطر.
في وثيقة مثيرة طالب أسانج جميع القيادات الأمنية من وكالة مخابرات مركزية إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى غيره من الأجهزة الأمنية التي يعمل فيها أكثر من مليون أمريكي إلى جانب آلاف العملاء وإنفاق المليارات، طالبها بالاستقالة فورا حيث إنها أصبحت مكشوفة.
وقد وجهت وثائق ''ويكيليكس'' ضربة قاصمة لبيرلسكوني عندما اتهمته بالتورط مع بوتين في صفقات مريبة وتحصله على عمولات من روسيا إلى جانب حفلاته مع العاهرات.
لا شك أن العالم بعد تسريبات ''ويكيليكس'' أصبح مختلفا في بقاع كثيرة جغرافية ومناطق عديدة سياسية، فقد قوضت من قوة أجهزة المخابرات وأثبتت هشاشتها، كما أكدت أن التآمر هو القاسم المشترك الأعظم للسياسة الأمريكية.